الذراع المحطمة
كان ذلك منذ سنوات، حينما اتصلت بي إدارة إحدى المستشفيات الكبيرة مساء يوم السبت، وأنا أتهيّأ لقضاء عطلة
آخر الأسبوع، وطلبت أن أوافيها من فوري لإجراء جراحة خطيرة لعامل في سكة الحديد تحطّمت ذراعه في
حادث قطار.
ولمّا وصلت إلى المستشفى، فاجأني الجراح المقيم هناك قائلاً: (( لقد أعددنا العدّة لبتر ذراع المصاب المسكين!
وحالته خطيرة كما سترى، فقد تهشّمت ذراعه بين عربتين من عربات قطار للبضاعة كان يحاول وصلهما!
على أنّ من حسن الحظّ أنّ العامل من هواة المصارعة، وأنّ جسمه غاية في القوة. ))
وما كدت ألقي نظرةً على ذراع المصاب في حجرة الجّرّاح حتّى أيقنت أنّ بترها هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ
حياته، فقد بدت أشبه بقطعة من العجين وبها كسور عديدة، والدم ينزف منها غزيراً على الرغم من الاحتياطات
التي اتّخذها المختصّون في المستشفى. وعلى هذا تهيّأت لإجراء جراحة البتر، وأمسكت بالمشرط ، وهممت
بإعطاء الإشارة لكي يبدأ طبيب التّخدير مهمّته، إذ لم يصيبني أدنى شكّ في أنّ أية محاولة أخرى لعلاج الذراع
مصيرها الإخفاق المحقق، بل إنّها قد تقضي على حياة المريض لتعذر وقاية الذراع من التعفن، أو لتعذر بقائه
تحت تأثير المخدر طوال الوقت الذي يستغرقه إجراء الجراحات المتعدّدة لإعادة بناء ذراعه المهشّمة.
-2-
على أني لسبب لا أدريه توقّفت عن إعطاء الإشارة لطبيب التخدير، وأخذت أحدّق في وجه العامل المصاب فخيّل
إليّ أن عينيه ترسلان نحوي نظرات كلّها توسل واستعطاف لكي أحفظ له ذراعه، ولست أدري لماذا انطلق
خيالي إلى زوجته وأولاده، فتصوّرت أنّهم يبكون ويتوسّلون إليّ أيضاً أن أبقي لهم ذراع عائلهم الوحيد!
وشعرت بعدها بأن ضميري يؤنّبني على محاولة بتر ذراع الرجل، ويتّهمني بأنّني ما أقدمت على هذه المحاولة
إلا بدافع الكسل وتفادي المجهود الذي يتطلّبه إصلاح الذراع المصابة، وحاولت أن أتخلّص من هذا التأنيب
الداخلي بإقناع نفسي بأنّ هذا الإصلاح ينطوي على خطر شديد قد يودي بحياة المصاب، وهو لذلك ينافي أبسط
القواعد في دستور إسعاف المصابين، ولكنّ نفسي لم تقتنع ، وخيّل إليّ أنّ قسمات وجه المصاب نصرخ في
وجهي: (( لا تبتر ذراعي!! لست أعبأ بالموت، إنّني أفضّله ألف مرّة على أن أبقى بذراع واحدة عاجزاً عن
إعالة نفسي وأولادي)) .
وكان طبيب التّخدير قد تملّكه الضيق لطول وقوفي ذاهلا أمام المصاب، كما بدت الدهشة في وجوه جرّاح
المستشفى ومساعديه، ثمّ كانت دهشة الجميع أشدّ حينما فاجأتهم بقولي: (( كلا! لن أبتر الذراع )).
فقال الجراح: (( إنّ المصاب بحالته هذه لا يستطيع البقاء مخدّراً أكثر من نصف ساعة، وهذه المدّة لا تكفي إلا
للبتر، أمّا الجراحات المتعدّدة التي تقتضيها محاولة إصلاح الذراع فلت تستغرق أقلّ من ثلاث ساعات فضلاً عن
أنّ نجاحها مشكوك فيه.... )).
وكان جوابي أن أصررت على رأيي في عناد عجيب، مدفوعا بإحساس قويّ لم أملك أن أبعده ولا أن أخفف من
قوته.
-3-
وتمّ تخدير المصاب، وشرعت في إجراء الجراحة الأولى لإصلاح الذراع، كان عليّ أوّلاً وقبل كلّ شيء أن أتمّ
تنظيف الذراع المحطّمة، ثمّ أخذت أحوك أنسجة العضلات الممزّقة، فقضيت ساعة كاملة، ثم بدأت خطوة أهمّ
وأخطر وهي خطوة إصلاح العظام التي تهشّمت ، تلاها ترقيع المساحات الكبيرة التي تعرّت من الجلد ، بقطع
من جلد بطن المصاب نفسه، حتّى لا يتعرّض للموت المحقق متأثّراً بتعفّن جروحه، وقد نزعت من جلد بطنه. بعد
إصلاح ما أمكن تصليحه، أربع قطع من الجلد، طول كل منها 10 سنتمترات، وخطت هذه القطع الأربع معاً على
هيئة كم جعلته حول الذراع المصابة، بعد أن لففتها بالشاش المعقم ووضعتها في الجبس. وهنا استطعت أن أتوقّف
عن العمل، وأطلقت زفرة طويلة وأنا أرددّ نظراتي بين المصاب الذي بدا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة وبين
طبيب التخدير الذي تملّكه الجزع والقلق خشية أن يفلت منه زمام تنفّس المصاب وتتوقّف ضربات قلبه.
ثمّ تطلّعت إلى ساعة يدي فإذا بالوقت الذي استغرقته ثلاث ساعات ونصف ساعة.
-4-
وقضيت بعد ذلك عشرة أيّام أواصل دفع الموت عن المصاب الفاقد الوعي بنقل كمّيات كبيرة من الدم إليه كلّ
يوم. وكنت كلما فكّرت في احتمال موته ازددت فزعاً وخوفاً، لكنّه في اليوم الحادي عشر استعاد وعيه فجأة،
وأخذت حالته تتحسن. وقد سرّني أنّي كسبت الجولة الأولى من المعركة، ولكنني لم أكن أعرف ما حدث للذراع
المختفية تحت الجبس، وكان من المحتمل أن يكون التعفن قد سرى فيها، أو أنّ ترقيع الجلد لم يقدّر له النجاح.
وقضيت خمسة وأربعين يوماً أخرى ينتابني الأمل أحياناً، وتساورني المخاوف أحياناً أخرى. وأخيراً حان الوقت
لإزالة غطاء الجبس عن الذراع، وكانت هذه أحرج ساعة في حياتي، فأخذت في إنجاز المهمة. بينما تعلّقت عيون
من تجمعوا حولي من الأطبّاء و المساعدين. فلما انتهيت من إزالة الجبس، ثم الشاش كدت أقفز من فرط سروري
إذ كانت كسور العظام قد التحمت، وأنسجة الجلد قد استعادت حيويّتها.
النـــــــــــــهــــــــــــــــــــايـــــــــــ ــــــة